فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {ويلكم} قال الزجاج: هو منصوب على ألزمكم الله ويلًا ويجوز أن يكون على النداء، كقوله تعالى: {يا ويلنا مَن بعثنا من مرقدنا} [يس: 52].
قوله تعالى: {لا تفتروا على الله كذبًا} قال ابن عباس: لا تشركوا معه أحدًا.
قوله تعالى: {فيسحتَكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {فيَسحَتَكم} بفتح الياء، من سحت.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {فيُسحِتكم} بضم الياء، من أسحت.
قال الفراء: ويُسحت أكثر، وهو الاستئصال، والعرب تقول: سحته الله، وأسحته، قال الفرزدق:
وَعَضَّ زَمانٍ يابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ** مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتًا أوْ مُجَلَّفُ

هكذا أنشد البيت الفراء، والزجاج.
ورواه أبو عبيدة: {إِلاَّ مُسْحَتٌ أو مُجلَّفُ} بالرفع.
قوله تعالى: {فتنازعوا أمرهم بينهم} يعني: السحرة تناظروا فيما بينهم في أمر موسى، وتشاوروا {وأسرُّوا النجوى} أي: أَخْفَوْا كلامهم من فرعون وقومه.
وقيل: من موسى وهارون.
وقيل: {أسرُّوا} هاهنا بمعنى أظهروا.
وفي ذلك الكلام الذي جرى بينهم ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم قالوا: إِن كان هذا ساحرًا، فإنا سنغلبه، وإِن يكن من السماء كما زعمتم، فله أمره، قاله قتادة.
والثاني: أنهم لما سمعوا كلام موسى قالوا: ما هذا بقول ساحر، ولكن هذا كلام الرب الأعلى، فعرفوا الحقَّ، ثم نظروا إِلى فرعون وسلطانه، وإِلى موسى وعصاه، فنُكسوا على رؤوسهم، وقالوا إِن هذان لساحران، قاله الضحاك، ومقاتل.
والثالث: أنهم {قالوا إِنْ هذان لساحران} الآيات، قاله السدي.
واختلف القراء في قوله تعالى: {إِنْ هذان لساحران} فقرأ أبو عمرو بن العلاء: {إِنَّ هذين} على إِعمال {إِنَّ} وقال: إِني لأستحيي من الله أن أقرأ {إِنْ هذان}.
وقرأ ابن كثير: {إِنْ} خفيفة {هذانّ} بتشديد النون.
وقرأ عاصم في رواية حفص: {إِنْ} خفيفة {هذان} خفيفة أيضًا.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {إِنّ} بالتشديد {هاذان} بألف ونون خفيفة.
فأما قراءة أبي عمرو، فاحتجاجه في مخالفة المصحف بما روى عن عثمان وعائشة، أن هذا من غلط الكاتب على ما حكيناه في قوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} في سورة [النساء: 162].
وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما هذان إِلا ساحران،
كقوله تعالى: {وإِنْ نظنُّك لمن الكاذبين} [الشعراء: 186] أي: ما نظنك إِلا من الكاذبين، وأنشدوا في ذلك:
ثكلتْك أمُّك إِن قتلتَ لَمُسْلِمًا ** حَلّت عَليه عُقوبة المُتَعمِّدِ

أي: ما قتلت إِلا مسلمًا.
قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة، ما روي عن أُبيِّ ابن كعبٍ أنه قرأ {ما هذان إِلا ساحران}، وروي عنه: {إِن هذان إِلا ساحران}، ورويت عن الخليل {إِنْ هذان} بالتخفيف، والإِجماع على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل.
فأما قراءة الأكثرين بتشديد {إِنَّ} وإِثبات الألف في قوله: {هاذان} فروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: هي لغة بلحارث بن كعب.
وقال ابن الأنباري: هي لغة لبني الحارث بن كعب، وافقتها لغة قريش.
قال الزجاج: وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب، وهو رأس من رؤوس الرواة: أنها لغة لكنانة، يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، يقولون: أتاني الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، وأنشدوا:
فأَطْرَقَ إِطْرَاقَ الشُّجاعِ وَلَوْ رَأىَ ** مَسَاغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا

ويقول هؤلاء: ضربته بين أُذناه.
وقال النحويون القدماء: هاهنا هاء مضمرة، المعنى: إِنه هذان لساحران.
وقالوا أيضًا: إِن معنى {إِنَّ}: نعم {هذان لساحران}، وينشدون:
ويَقْلنَ شَيْبٌ قد عَلاَ ** كَ وقد كَبِرتَ فقلتُ إِنَّهْ

قال الزجاج: والذي عندي، وكنتُ عرضتُه على عالمنا محمد بن يزيد، وعلى إِسماعيل بن إِسحاق ابن حماد بن زيد، فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا، وهو أن {إِنَّ} قد وقعت موقع {نعم}، والمعنى: نعم هذان لهما الساحران، ويلي هذا في الجودة مذهب بني كنانة.
وأستحسن هذه القراءة، لأنها مذهب أكثر القراء، وبها يُقرأ.
وأستحسن قراءة عاصم، والخليل، لأنهما إِمامان، ولأنهما وافقا أُبَيَّ بن كعب في المعنى.
ولا أجيز قراءة أبي عمرو لخلاف المصحف.
وحكى ابن الأنباري عن الفراء قال: {ألف} {هذان} هي ألف {هذا} والنون فرَّقتْ بين الواحد والتثنية، كما فرقت نون {الذين} بين الواحد والجمع.
قوله تعالى: {ويذهبا بطريقتكم} وقرأ أبان عن عاصم: {ويُذهِبا} بضم الياء وكسر الهاء.
وقرأ ابن مسعود، وأُبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عمرو، وأبو رجاء العطاردي: {ويذهبا بالطريقة} بألف ولام، مع حذف الكاف والميم.
وفي الطريقة قولان:
أحدهما: بدينكم المستقيم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقال أبو عبيدة: بسُنَّتِكم ودِينِكم وما أنتم عليه، يقال: فلان حسن الطريقة.
والثاني: بأمثلكم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال مجاهد: بأُولي العقل، والأشراف، والأسنان.
وقال الشعبي: يصرفان وجوه الناس إِليهما.
قال الفراء: الطريقة: الرجال الأشراف، تقول العرب للقوم الأشراف: هؤلاء طريقة قومهم، وطرائق قومهم.
فأما {المثلى} فقال أبو عبيدة: هي تأنيث الأمثل.
تقول في الإِناث: خذ المثلى منهما، وفي الذكور: خذ الأمثل.
وقال الزجاج: ومعنى المثلى والأمثل: ذو الفضل الذي به يستحق أن يقال: هذا أمثل قومه؛ قال: والذي عندي أن في الكلام محذوفًا، والمعنى: يذهبا بأهل طريقتكم المثلى، وقول العرب: هذا طريقة قومه، أي: صاحب طريقتهم.
قوله تعالى: {فأجمعوا كيدكم} قرأ الأكثرون: {فأجمِعوا} بقطع الألف من أجمعت.
والمعنى: ليكن عزمكم مجمعًا عليه، لا تختلفوا فيختلَّ أمرُكم.
قال الفراء: والإِجماع: الإِحكام والعزيمة على الشيء، تقول: أجمعت على الخروج، وأجمعت الخروج، تريد: أزمعت، قال الشاعر:
يا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ ** هَلْ أغْدُونَ يَوْمًا وأمْرِي مُجْمَع

يريد: قد أُحكم وعُزم عليه.
وقرأ أبو عمرو: {فاجمَعوا} بفتح الميم من جمعت، يريد: لا تَدَعوا من كيدكم شيئًا إِلا جئتم به.
فأما كيدهم، فالمراد به: سحرهم ومكرهم.
قوله تعالى: {ثم ائتُوا صَفًَّا} أي: مُصْطَفِّين مجتمعين، ليكون أنظم لأموركم، وأشدَّ لهيبتكم.
قال أبو عبيدة: {صفًا} أي: صفوفًا.
وقال ابن قتيبة: {صفًا} بمعنى: جمعًا.
قال الحسن: كانوا خمسة وعشرين صفًا، كلُّ ألف ساحر صفٌّ.
قوله تعالى: {وقد أفلح اليوم من استعلى} قال ابن عباس: فاز من غلب. اهـ.

.قال القرطبي:

{قَالَ لَهُمْ موسى} أي قال لفرعون والسحرة {وَيْلَكُمْ} دعاء عليهم بالويل.
وهو بمعنى المصدر.
وقال أبو إسحاق الزجاج: هو منصوب بمعنى ألزمهم الله وَيْلًا.
قال: ويجوز أن يكون نداء كقوله تعالى: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا} [ياس: 52].
{لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِبًا} أي لا تختلقوا عليه الكذب، ولا تشركوا به، ولا تقولوا للمعجزات إنها سحر.
{فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} مِن عِنده أي يستأصلكم بالإهلاك.
يقال فيه: سَحَت وأَسْحت بمعنًى.
وأصله من استقصاء الشَّعْر.
وقرأ الكوفيون {فَيُسْحِتَكُمْ} من أسْحَت، الباقون {فَيَسْحَتَكُمْ} من سَحَت وهذه لغة أهل الحجاز والأولى لغة بني تميم.
وانتصب على جواب النهي.
وقال الفرزدق:
وعَضّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ ** من المالِ إِلاَّ مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ

الزمخشري: وهذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه.
{وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} أي خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به.
قوله تعالى: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تشاوروا؛ يريد السّحرة.
{وَأَسَرُّواْ النجوى} قال قتادة {قالوا}: إن كان ما جاء به سحرًا فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر؛ وهذا الذي أسروه.
وقيل الذي أسروا قولهم: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} الآيات، قاله السدي ومقاتل.
وقيل الذي أسروا قولهم: إن غَلَبنا اتبعناه؛ قاله الكلبي دليله ما ظهر من عاقبة أمرهم.
وقيل: كان سرهم أن قالوا حين قال لهم موسى {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِبًا} [طه: 61]: ما هذا بقول ساحر.
و{النجوى} المناجاة يكون اسمًا ومصدرًا؛ وقد تقدم في النساء بيانه.
قوله تعالى: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} قرأ أبو عمرو {إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ}.
ورويت عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة؛ وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النَّخَعيّ وغيرهم من التابعين؛ ومن القراء عيسى بن عمر وعاصم الجحدري؛ فيما ذكر النحاس.
وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف.
وقرأ الزهريّ والخليل بن أحمد والمفضل وأبان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص عنه {إِنْ هَذَانِ} بتخفيف {إن} {لساحران} وابن كثير يشدّد نون {هذانّ}.
وهذه القراءة سلمت من مخالفة المصحف ومن فساد الإعراب، ويكون معناها ما هذان إلا ساحران.
وقرأ المدنيون والكوفيون {إنَّ هَذَانِ} بتشديد {إنّ} {لساحران} فوافقوا المصحف وخالفوا الإعراب.
قال النحاس: فهذه ثلاث قراءات قد رواها الجماعة عن الأئمة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ {إِنْ هذانِ إِلاّ ساحِرَانِ} وقال الكسائي في قراءة عبد الله: {إِنْ هَذَانِ سَاحِرَانِ} بغير لام؛ وقال الفراء في حرف أبيّ {إِنْ ذَانِ إِلاَّ سَاحِرَانِ} فهذه ثلاث قراءات أخرى تحمل على التفسير لا أنها جائز أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف.
قلت: وللعلماء في قراءة أهل المدينة والكوفة ستة أقوال ذكرها ابن الأنباري في آخر كتاب الردّ له، والنحاس في إعرابه، والمهدوي في تفسيره، وغيرهم أدخل كلام بعضهم في بعض.
وقد خطأهم قوم حتى قال أبو عمرو: إني لأستحي من الله تعالى أن أقرأ {إِنَّ هَذَانِ}: وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى: {لكن الراسخون فِي العلم} [النساء: 162] ثم قال: {والمقِيمِين} وفي المائدة {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصَّابِئُونَ} [البقرة: 62] و{إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فقالت: يا ابن أختي هذا خطأ من الكاتب.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: في المصحف لحن وستقيمه العرب بألسنتهم.
وقال أبان بن عثمان: قرأت هذه الآية عند أبي عثمان بن عفان، فقال: لحن وخطأ؛ فقال له قائل: ألا تغيِّروه؟ فقال: دَعُوه فإنه لا يحرّم حلالًا ولا يحلّل حرامًا.
القول الأول من الأقوال الستة أَنها لغة بني الحرث بن كعب وزَبيد وخَثْعم وكنانة بن زيد يجعلون رفع الاثنين ونصبه وخفضه بالألف؛ يقولون: جاء الزيدان ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] على ما تقدّم.
وأنشد الفراء لرجل من بني أسد قال: وما رأيت أفصح منه:
فأَطرقَ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يَرَى ** مَساغًا لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا

ويقولون: كسرت يداه وركبت عَلاَه؛ بمعنى يديه وعليه؛ قال شاعرهم:
تَزوَّدَ مِنّا بين أُذْنَاه ضَرْبَةً ** دعته إلى هابِي التُّرابِ عَقِيم

وقال آخر:
طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا

أي عليهنّ وعليها وقال آخر:
إنّ أَبَاهَا وأَبَا أباهَا ** قد بَلَغَا في المجدِ غايتاها

أي إن أبا أبيها وغايتيها.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية؛ إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى بعلمه وأمانته؛ منهم أبو زيد الأنصاري، وهو الذي يقول: إذا قال سيبويه حدّثني من أثق به فإنما يعنيني؛ وأبو الخطاب الأخفش وهو رئيس من رؤساء اللغة، والكسائي والفراء كلهم قالوا هذا على لغة بني الحارث بن كعب.
وحكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أن هذه لغة بني كنانة.
المهدوي: وحكى غيره أنها لغة لخثعم.
قال النحاس ومن أبين ما في هذا قول سيبويه: واعلم أنك إذا ثنيت الواحد زدت عليه زائدتين، الأولى منهما حرف مدّ ولين وهو حرف الإعراب؛ قال أبو جعفر فقول سيبويه: وهو حرف الإعراب، يوجب أن الأصل ألا يتغير، فيكون {إِنَّ هَذَانِ} جاء على أصله ليعلم ذلك، وقد قال تعالى: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} [المجادلة: 19] ولم يقل استحاذ؛ فجاء هذا ليدل على الأصل، وكذلك {إِنْ هذان} ولا يفكر في إنكار من أنكر هذه اللغة إذْ كان الأئمة قد رووها.
القول الثاني: أن يكون {إنّ} بمعنى نعم؛ كما حكى الكسائي عن عاصم قال: العرب تأتي ب {إنّ} بمعنى نعم، وحكى سيبويه أن {إنّ} تأتي بمعنى أَجَلْ، وإلى هذا القول كان محمد بن يزيد، وإسماعيل بن إسحاق القاضي يذهبان؛ قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق الزجاج وعلي بن سليمان يذهبان إليه.